الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اختصار علوم الحديث ***
يَصِحُّ تَحَمُّلُ الصِّغَارِ الشَّهَادَةَ وَالْأَخْبَارَ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ إِذَا أَدَّوْا مَا حَمَلُوهُ فِي حَالِ كَمَالِهِمْ، وَهُوَ الِاحْتِلَامُ وَالْإِسْلَامُ. وَيَنْبَغِي الْمُبَارَاةُ إِلَى إِسْمَاعِ الْوِلْدَانِ الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ وَالْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَمَا قَبْلَهَا بِمُدَدٍ مُتَطَاوِلَةٍ أَنَّ الصَّغِيرَ يُكْتَبُ لَهُ حُضُورٌ إِلَى تَمَامِ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ عُمْرِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَمَّى سَمَاعًا، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ «أَنَّهُ عَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ مِنْ دَلْوٍ فِي دَارِهِمْ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَجَعَلُوهُ فَرْقًا بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْحُضُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ. وَضَبَطَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِسِنِّ التَّمْيِيزِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْحِمَارِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَنْبَغِي السَّمَاعُ إِلَّا بَعْدَ الْعِشْرِينَ سَنَةً وَقَالَ: بَعْضُ عَشْرٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: ثَلَاثُونَ وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى التَّمْيِيزِ، فَمَتَى كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ كُتِبَ لَهُ سَمَاعٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَبَلَغَنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ صَبِيًّا ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدْ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ يَبْكِي.
وَأَنْوَاعُ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ ثَمَانِيَةٌ: وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ لَفْظِ الْمُسْمَعِ حِفْظًا، أَوْ مِنْ كِتَابٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فَلَا خِلَافَ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ السَّامِعُ "حَدَّثَنَا"، وَ"أَخْبَرَنَا"، و"أَنْبَأَنَا" و"سَمِعْتُ"، وَ"قَالَ لَنَا"، وَ"ذَكَرَ فُلَانٌ". وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَرْفَعُ الْعِبَارَاتِ "سَمِعْتُ"، ثُمَّ "حَدَّثَنَا"، و"حَدَّثَنِي"، (قَالَ) وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَكَادُونَ يُخْبِرُونَ عَمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الشَّيْخِ إِلَّا بِقَوْلِهِمْ "أَخْبَرَنَا"، وَمِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وهُشَيْمُ (بْنُ بَشِيرٍ)، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ "حَدَّثَنَا" وَ"أَخْبَرَنَا" أَعْلَى مِنْ "سَمِعْتُ"; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْصِدُهُ بِالْإِسْمَاعِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. "حَاشِيَةٌ" قُلْتُ بَلْ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَعْلَى الْعِبَارَاتِ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ "حَدَّثَنِي"، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ "حَدَّثَنَا" أَوْ "أَخْبَرَنَا"، قَدْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ الشَّيْخَ بِذَلِكَ أَيْضًا; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ "الْعَرْضُ" عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالرِّوَايَةُ بِهَا سَائِغَةٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا عِنْدَ شُذَّاذٍ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَمُسْتَنَدُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ دُونَ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ وَعَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهَا أَقْوَى وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَيُعْزَى ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ، وَإِلَى مَالِكٍ أَيْضًا وَأَشْيَاخِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمَشْرِقِ. فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا يَقُولُ "قَرَأْتُ" أَوْ قُرِئَ عَلَى فُلَانٍ وَأَنَا أَسْمَعُ فَأُقِرُّ بِهِ" أَوْ "أَخْبَرَنَا" أَوْ "حَدَّثَنَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ"، وَهَذَا وَاضِحٌ، فَإِنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْبُخَارِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَالزُّهْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُعْظَمِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَوَّغَ "سَمِعْتُ" أَيْضًا، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجَوِّزَ "أَخْبَرَنَا"، وَلَا يُجَوِّزَ "حَدَّثَنَا" وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَجُمْهُورُ الْمَشَارِقَةِ، بَلْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: وَهُوَ الشَّائِعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ. "فَرْعٌ" وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يُقِرَّ الشَّيْخُ بِمَا قُرِئَ عَلَيْهِ نُطْقًا، بَلْ يَكْفِي سُكُوتَهُ وَإِقْرَارَهُ عَلَيْهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: لَا بُدَّ مِنِ اسْتِنْطَاقِهِ بِذَلِكَ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ لَمْ تَجُزْ الرِّوَايَةُ، وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا سَمِعَ عَلَيْه "فَرْعٌ" قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالْحَاكِمُ يَقُولُ: فِيمَا قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ وَحْدَهُ "حَدَّثَنِي"، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ "حَدَّثَنَا"، وَفِيمَا قَرَأَهُ عَلَى الشَّيْخِ وَحْدَهُ "أَخْبَرَنِي"، فَإِنْ قَرَأَهُ غَيْرُهُ "أَخْبَرَنَا" قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا حَسَنٌ فَائِقٌ، فَإِنْ شَكَّ أَتَى بِالْمُتَحَقِّقِ، وَهُوَ الْوَحْدَةُ "حَدَّثَنِي" أَوْ "أَخْبَرَنِي"، عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ يَأْتِي بِالْأَدْنَى، وَهُوَ "حَدَّثَنَا" أَوْ "أَخْبَرَنَا" قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ مُسْتَحَبٌّ، لَا مُسْتَحَقٌّ، عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّة. "فَرْعٌ" اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ سَمَاعِ مَنْ يَنْسَخُ أَوْ إِسْمَاعِهِ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّبْغِيُّ يَقُولُ "حَضَرْتُ"، وَلَا يَقُولُ "حَدَّثَنَا" وَلَا "أَخْبَرَنَا" وَجَوَّزَهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ. وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَنْسَخُ، وَهُوَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ كَتَبْتُ حَدِيثَ عَارِمٍ وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، وَحَضَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ شَابٌّ، فَجَلَسَ إِسْمَاعِيلُ الصَفَّارُ وَهُوَ يُمْلِي، وَالدَّارَقُطْنِيُّ يَنْسَخُ جُزْءًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَا يَصِحُّ سَمَاعُكَ وَأَنْتَ تَنْسَخُ، فَقَالَ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ بِخِلَافِ فَهْمِكِ، فَقَالَ لَهُ كَمْ أَمْلَى الشَّيْخُ حَدِيثًا إِلَى الْآنَ؟ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، ثُمَّ سَرَدَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- يَكْتُبُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَيَنْعَسُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ رَدًّا جَيِّدًا بَيِّنًا وَاضِحًا، بِحَيْثُ يَتَعَجَّبُ الْقَارِئُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُغَلِّطُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ، وَالشَّيْخُ نَاعِسٌ وَهُوَ أَنْبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ شَابٌّ، فَجَلَسَ إِسْمَاعِيلُ الصَفَّارُ وَهُوَ يُمْلِي، وَالدَّارَقُطْنِيُّ يَنْسَخُ جُزْءًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَا يَصِحُّ سَمَاعُكَ وَأَنْتَ تَنْسَخُ، فَقَالَ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ بِخِلَافِ فَهْمِكِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ أَمْلَى الشَّيْخُ حَدِيثًا إِلَى الْآنَ؟ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، ثُمَّ سَرَدَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- يَكْتُبُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَيَنْعَسُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ رَدًّا جَيِّدًا بَيِّنًا وَاضِحًا، بِحَيْثُ يَتَعَجَّبُ الْقَارِئُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُغَلِّطُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ، وَالشَّيْخُ نَاعِسٌ وَهُوَ أَنْبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَذَلِكَ التَّحَدُّثُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْقَارِئُ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ السَّامِعُ بَعِيدًا مِنَ الْقَارِئِ ثُمَّ اخْتَارَ أَنْ يُغْتَفَرَ الْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مَا يَقْرَأُ مَعَ النَّسْخِ فَالسَّمَاعُ صَحِيحٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبِرَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ. هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي زَمَانِنَا الْيَوْمَ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ السَّمَاعِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، وَالْبَعِيدُ مِنَ الْقَارِئِ، وَالنَّاعِسُ، وَالْمُتَحَدِّثُ، وَالصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ أَمْرُهُمْ، بَلْ يَلْعَبُونَ غَالِبًا، وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانَ يُكْتَبُ لَهُمْ السَّمَاعُ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَبَلَغَنِي عَنِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ سُلَيْمَانَ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّهُ زُجِرَ فِي مَجْلِسِهِ الصِّبْيَانُ عَنِ اللَّعِبِ، فَقَالَ: لَا تَزْجُرُوهُمْ، فَإِنَّا سَمِعْنَا مِثْلَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ الْعَلَمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَكْفِيكَ مِنَ الْحَدِيثِ شَمُّهُ وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَقَدْ كَانَتْ الْمَجَالِسُ تُعْقَدُ بِبَغْدَادَ، وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَيَجْتَمِعُ الْفِئَامُ مِنَ النَّاسِ، بَلْ الْأُلُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَيَصْعَدُ الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ، ويُبِلِّغُونَ عَنِ الْمَشَايِخِ مَا يُمْلُونَ، فَيُحَدِّثُ النَّاسُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، مَعَ مَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَجَامِعِ مِنَ اللَّغَطِ وَالْكَلَامِ وَحَكَى الْأَعْمَشُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَلْقَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذَا لَمْ يَسْمَعْ أَحَدُهُمْ الْكَلِمَةَ جَيِّدًا اسْتَفْهَمَهَا مِنْ جَارِهِ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ، وَإِنْ قَدْ تَوَرَّعَ آخَرُونَ وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ السَّمَاعُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَرْوُونَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثٍ: «حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ». وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ: إِذَا حَدَّثَكَ مَنْ لَا تَرَى شَخْصَهُ فَلَا تَرْوِ عَنْهُ، فَلَعَلَّهُ شَيْطَانٌ قَدْ تَصَوَّرَ فِي صُورَتِهِ، يَقُولُ حَدَّثَنَا أَخْبَرَنَا وَهَذَا عَجِيبٌ وَغَرِيبٌ جِدًّا، إِذَا حَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ قَالَ: " لَا تَرْوِهِ عَنِّي"، أَوْ "رَجَعْتُ عَنْ إِسْمَاعِكَ"، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُبْدِ مُسْتَنَدًا سِوَى الْمَنْعِ الْيَابِسِ، أَوْ أَسْمَعَ قَوْمًا فَخَصَّ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: "لَا أُجِيزُ لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي شَيْئًا" فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِهِ وَقَدْ حَدَّثَ النَّسَائِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِذَلِكَ.
وَالرِّوَايَةُ بِهَا جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَادَّعَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ البَاجِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَضَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِمَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِهَا وَبِذَلِكَ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَعَزَاهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ قَطَعَ بِالْمَنْعِ الْقَاضِي حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ المَرْوَرُّوذِيُّ صَاحِبُ التَّعْلِيقَةِ، وَقَالَا جَمِيعًا لَوْ جَازَتْ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ لَبَطَلَتْ الرِّحْلَةُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِ، وَمِمَّنْ أَبْطَلَهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ الوَائلِيُّ السِّجْزِيُّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَقِيَهُمْ، ثُمَّ هِيَ أَقْسَامٌ: 1- إِجَازَةٌ مِنْ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ فِي مُعَيَّنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: "أَجَزْتُكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْكِتَابَ"، أَوْ "هَذِهِ الْكُتُبَ"، وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، حَتَّى الظَّاهِرِيَّةِ، لَكِنْ خَالَفُوا فِي الْعَمَلِ بِهَا; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُرْسَلِ عِنْدَهُمْ، إِذَا لَمْ يَتَّصِلِ السَّمَاعُ. 2- إِجَازَةٌ لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: " أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا أَرْوِيهِ"، أَوْ "مَا صَحَّ عِنْدَكَ، مِنْ مَسْمُوعَاتِي وَمُصَنَّفَاتِي" وَهَذَا مِمَّا يُجَوِّزُهُ الْجُمْهُورُ أَيْضًا، رِوَايَةً وَعَمَلًا. 3- الْإِجَازَةُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: "جَزْتُ لِلْمُسْلِمِينَ"، أَوْ "لِلْمَوْجُودِينَ"، أَوْ "لِمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَتُسَمَّى "الْإِجَازَةَ الْعَامَّةَ" وَقَدْ اعْتَبَرَهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْعُلَمَاءِ، فَمَنْ جَوَّزَهَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَنَقَلَهَا عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَنَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيِّ الْحَافِظِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُحَدِّثِي الْمَغَارِبَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ. 4- الْإِجَازَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَجْهُولَ، فَفَاسِدَةٌ، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يَقَعُ مِنَ الِاسْتِدْعَاءِ لِجَمَاعَةٍ مُسَمَّيْنَ لَا يَعْرِفُهُمْ الْمُجِيزُ أَوْ لَا يَتَصَفَّحُ أَنْسَابَهُمْ وَلَا عِدَّتَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا سَائِغٌ شَائِعٌ، كَمَا لَا يَسْتَحْضِرُ الْمُسْمَعُ أَنْسَابَ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ وَلَا عِدَّتَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أ"َجَزْتُ رِوَايَةَ هَذَا الْكِتَابِ لِمَنْ أُحِبُّ رِوَايَتَهُ عَنِّي"، فَقَدْ كَتَبَهُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ، وَسَوَّغَهُ غَيْرُهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ:" أَجَزْتُكَ وَلِوَلَدِكَ وَنَسْلِكَ وَعَقِبِكَ رِوَايَةَ هَذَا الْكِتَابِ" أَوْ "مَا يَجُوزُ لِي رِوَايَتُهُ" فَقَدْ جَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ لِرَجُلٍ "أَجَزْتُ لَكَ وَلِأَوْلَادِكَ وَلِحَبَلِ الْحَبَلَةِ" وَأَمَّا لَوْ قَالَ "أَجَزْتُ لِمَنْ يُوجَدُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ"، فَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ جَوَازَهَا عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيِّ، وَأَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَمْرُوسٍ الْمَالِكِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ طَائِفَةٍ، ثُمَّ ضَعَّفَ ذَلِكَ، وَقَالَ هَذَا يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ أَوْ مُحَادَثَةٌ، وَكَذَلِكَ ضَعَّفَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ، وَأَوْرَدَ الْإِجَازَةَ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُخَاطَبُ مِثْلُهُ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ إِلَّا لِمَنْ يَصِحُّ سَمَاعُهُ؟ فَقَالَ: قَدْ يُجِيزُ الْغَائِبَ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْهُ ثُمَّ رَجَّحَ الْخَطِيبُ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلصَّغِيرِ، قَالَ وَهُوَ الَّذِي رَأَيْنَا كَافَّةَ شُيُوخِنَا يَفْعَلُونَهُ، يُجِيزُونَ لِلْأَطْفَالِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ أَعْمَارِهِمْ، وَلَمْ نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: "أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا صَحَّ عِنْدَكَ مِمَّا سَمِعْتَهُ وَمَا سَأَسْمَعُهُ"، فَالْأَوَّلُ جَيِّدٌ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ وَقَدْ حَاوَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَخْرِيجَهُ عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ كَالْوِكَالَةِ وَفِيمَا لَوْ قَالَ: "وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ مَا سَأَمْلِكُهُ" خِلَافٌ وَأَمَّا الْإِجَازَةُ بِمَا يَرْوِيهِ إِجَازَةً، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَشَيْخُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ، وَالْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَالْخَطِيبُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ جَوَازُهُ، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ.
فَإِنْ كَانَ مَعَهَا إِجَازَةٌ، مِثْلَ أَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ كِتَابًا مِنْ سَمَاعِهِ، وَيَقُولَ لَهُ "ارْوِ هَذَا عَنِّي، أَوْ يُمَلِّكُهُ إِيَّاهُ، أَوْ يُعِيرُهُ لِيَنْسَخَهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ، أَوْ يَأْتِيهِ الطَّالِبُ بِكِتَابٍ مِنْ سَمَاعِهِ فَيَتَأَمَّلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ "ارْوِ عَنِّي هَذَا"، وَيُسَمَّى هَذَا "عَرْضَ الْمُنَاوِلِ" وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّ هَذَا إِسْمَاعٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَحَكَوْهُ عَنْ مَالِكٍ نَفْسِهِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، مِنَ الْمَكِّيِّينَ، وَعَلْقَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، مِنَ الْبَصْرَةِ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَنَقَلَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ خَلَطَ فِي كَلَامِهِ عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ بِعَرْضِ الْقِرَاءَةِ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ أَفَتَوْا فِي الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ سَمَاعًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى والبُوَيْطِيُّ والمُزَنِيُّ، وَعَلَيْهِ عَهِدْنَا أَئِمَّتَنَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبُوا، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمَلِّكْهُ الشَّيْخُ الْكِتَابَ، وَلَمْ يُعِرْهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُ مُنْحَطٌّ عَمَّا قَبْلَهُ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيَبْقَى مُجَرَّدَ إِجَازَةٍ. (قُلْتُ): أَمَّا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ مَشْهُورًا، كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَجَرَّدَتْ الْمُنَاوَلَةُ عَنِ الْإِذْنِ فِي الرِّوَايَةِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ جَوَازَهَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ إِعْلَامِ الشَّيْخِ لِلطَّالِبِ أَنَّ هَذَا سَمَاعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَقُولُ الرَّاوِي بِالْإِجَازَةِ "أَنْبَأَنَا" فَإِنْ قَالَ "إِجَازَةً" فَهُوَ أَحْسَنُ، وَيَجُوزُ "أَنْبَأَنَا" وَ"حَدَّثَنَا" عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ جَعَلُوا عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْإِجَازَةِ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ "حَدَّثَنَا" وَ"أَخْبَرَنَا"، بِلَا إِشْكَالٍ. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ "حَدَّثَنَا" وَلَا "أَخْبَرَنَا" بَلْ مُقَيَّدًا وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يُخَصِّصُ الْإِجَازَةَ بِقَوْلِهِ "خَبَّرْنَا" بِالتَّشْدِيدِ.
بِأَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، فَهُوَ كَالْمُنَاوَلَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْإِجَازَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهَا إِجَازَةٌ، فَقَدْ جَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِهَا أَيُّوبُ، وَمَنْصُورٌ، وَاللَّيْثُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَقْوَى مِنَ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَنْعِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَوَّزَ اللَّيْثُ وَمَنْصُورٌ فِي الْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَقُولَ "أَخْبَرَنَا" وَ"حَدَّثَنَا" مُطْلَقًا، وَالْأَحْسَنُ وَالْأَلْيَقُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُكَاتَبَةِ.
فَقَدْ سَوَّغَ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: لَوْ أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ وَنَهَاهُ عَنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ فَلَهُ رِوَايَتُهُ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ رِوَايَتِهِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ.
بِأَنْ يُوصِيَ بِكِتَابٍ لَهُ كَانَ يَرْوِيهِ لِشَخْصٍ فَقَدْ تَرَخَّصَ بَعْضُ السَّلَفِ (فِي رِوَايَةِ الْمُوصَى) لَهُ بِذَلِكَ الْكِتَابِ عَنْ الْمُوصِي، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْمُنَاوَلَةِ وَبِالْإِعْلَامِ بِالرِّوَايَةِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا بَعِيدٌ، وَهُوَ إِمَّا زَلَّةُ عَالِمٍ أَوْ مُتَأَوِّلٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ رِوَايَتَهُ بِالْوِجَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِدَ حَدِيثًا أَوْ كِتَابًا بِخَطِّ شَخْصٍ بِإِسْنَادِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، فَيَقُولُ "وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ حَدَّثَنَا فُلَانٌ" وَيُسْنِدُهُ وَيَقَعُ هَذَا أَكْثَرَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، يَقُولُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ "وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي حَدَّثَنَا فُلَانٌ" وَيَسُوقُ الْحَدِيثَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: "قَالَ فُلَانٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَدْلِيسٌ يُوهِمُ اللُّقِيَّ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَجَازَفَ بَعْضُهُمْ فَأَطْلَقَ فِيهِ "حَدَّثَنَا" أَوْ "أَخْبَرَنَا" وَانْتُقِدَ ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِيمَا وَجَدَ مِنْ تَصْنِيفِهِ بِغَيْرِ خَطِّهِ "ذَكَرَ فُلَانٌ"، وَ"قَالَ فُلَانٌ أَيْضًا، وَيَقُولُ "بَلَغَنِي عَنْ فُلَانٍ"، فِيمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِهِ أَوْ مُقَابَلَةِ كِتَابِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قُلْتُ): وَالْوِجَادَةُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةٌ عَمَّا وَجَدَهُ فِي الْكِتَابِ وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَا فَمَنَعَ مِنْهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ، فِيمَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ جَوَازُ الْعَمَلِ بِهَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَطَعَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْأُصُولِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ حُصُولِ الثِّقَةِ بِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِتَعَذُّرِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، يَعْنِي فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ وِجَادَاتٍ. (قُلْتُ): وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ وَذَكَرُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: فَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ، يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا». وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَدْحُ مَنْ عَمِلَ بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِمُجَرَّدِ الْوِجَادَةِ لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ». قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو سَعِيدٍ، فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قَالَ: وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ أَوْ فِعْلُهُ عَلِيٌّ، وَابْنُهُ الْحَسَنُ، وَأَنَسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فِي جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (قُلْتُ): وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ"، وَقَدْ تَحَرَّرَ هَذَا الْفَصْلُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِنَا الْمُقَدِّمَاتِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ حِينَ يُخَافُ الْتِبَاسُهُ بِالْقُرْآنِ، وَالْإِذْنُ فِيهِ حِينَ أُمِنَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حُكِيَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى تَسْوِيغِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَفِيضٌ، شَائِعٌ ذَائِعٌ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَيَنْبَغِي لِكَاتِبِ الْحَدِيثِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَضْبِطَ مَا يُشْكِلُ مِنْهُ، أَوْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ الطَّلَبَةِ، فِي أَصْلِ الْكِتَابِ نَقْطًا وَشَكْلًا وَإِعْرَابًا، عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَوْ قَيَّدَ فِي الْحَاشِيَةِ لَكَانَ حَسَنًا. وَيَنْبَغِي تَوْضِيحُهُ، وَيُكْرَهُ التَّدْقِيقُ وَالتَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ لِغَيْرِ عُذْرٍ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِابْنِ عَمِّهِ حَنْبَلٌ- وَقَدْ رَآهُ يَكْتُبُ دَقِيقًا-: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُ يَخُونُكَ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ كُلِّ حَدِيثَيْنِ دَائِرَةٌ وَمِمَّنْ بَلَغَنَا عَنْهُ ذَلِكَ أَبُو الزِّنَادِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. (قُلْتُ): قَدْ رَأَيْتُهُ فِي خَطِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الدَّائِرَةَ غَفَلًا، فَإِذَا قَابَلَهَا نَقَطَ فِيهَا النُّقْطَةَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ "عَبْدُ اللَّهِ فُلَانٌ، فَيَجْعَلُ "عَبْدُ" آخِرَ سَطْرٍ وَالْجَلَالَةَ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ، بَلْ يَكْتُبُهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ: وَلْيُحَافِظْ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهِ، وَإِنْ تَكَرَّرَ فَلَا يَسْأَمُ، فَإِنَّ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَ: وَمَا وُجِدَ مِنْ خَطِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الرِّوَايَةَ قَالَ الْخَطِيبُ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُطْقًا لَا خَطًّا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلْيَكْتُبْ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ مُجَلَّسَةً لَا رَمْزًا قَالَ: وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى قَوْلِهِ "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، يَعْنِي وَلْيَكْتُبْ صلى الله عليه وسلم وَاضِحَةً كَامِلَةً. قَالَ: وَلْيُقَابِلْ أَصْلَهُ بِأَصْلٍ مُعْتَمَدٍ، وَمَعَ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَوْثُوقٍ بِهِ ضَابِطٍ قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ شَدَّدَ وَقَالَ: لَا يُقَابِلُ إِلَّا مَعَ نَفْسِهِ قَالَ: وَهَذَا مَرْفُوضٌ مَرْدُودٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّخْرِيجِ وَالتَّضْبِيبِ وَالتَّصْحِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُطَّرِدَةِ وَالْخَاصَّةِ مَا أَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ جِدًّا. وَتَكَلَّمَ عَلَى كِتَابَةِ "ح" بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ، وَأَنَّهَا "ح" مُهْمَلَةٌ، مِنْ التَّحْوِيلِ أَوْ الْحَائِلُ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ، أَوْ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ "الْحَدِيثَ". (قُلْتُ): وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا "خَاءٌ" مُعْجَمَةٌ، أَيْ إِسْنَادٌ آخَرُ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: شَدَّدَ قَوْمٌ فِي الرِّوَايَةِ، فَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مِنْ حِفْظِ الرَّاوِي أَوْ تَذَكُّرِهِ، وَحَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ المَرْوَزِيِّ (الشَّافِعِيِّ). وَاكْتَفَى آخَرُونَ، وَهُمْ الْجُمْهُورُ، بِثُبُوتِ سَمَاعِ الرَّاوِي لِذَلِكَ الَّذِي يَسْمَعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِخَطِّ غَيْرِهِ، وَإِنْ غَابَتْ عَنْهُ النُّسْخَةُ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتَهَا مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ. وَتَسَاهَلَ آخَرُونَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ نُسَخٍ لَمْ تُقَابَلْ، بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الطَّالِبِ "هَذَا مِنْ رِوَايَتِكَ" مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، وَلَا نَظَرٍ فِي النُّسْخَةِ، وَلَا تَفَقُّدِ طَبَقَةِ سَمَاعِهِ. قَالَ: وَقَدْ عَدَّهُمْ الْحَاكِمُ فِي طَبَقَاتِ الْمَجْرُوحِينَ.
فَرْعٌ قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَالسَّمَاعُ عَلَى الضَّرِيرِ أَوْ الْبَصِيرِ الْأُمِّيِّ، إِذَا كَانَ مُثْبَتًا بِخَطِّ غَيْرِهِ أَوْ قَوْلِهِ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فمن الْعُلَمَاءِ مَنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهَا.
فَرْعٌ آخَرُ إِذَا رَوَى كِتَابًا، كَالْبُخَارِيِّ مَثَلًا، عَنْ شَيْخٍ، ثُمَّ وَجَدَ نُسْخَةً بِهِ لَيْسَتْ مُقَابَلَةً عَلَى أَصْلِ شَيْخِهِ، أَوْ لَمْ يَجِدْ أَصْلَ سَمَاعِهِ فِيهَا عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهَا، فَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ بْنُ الصَّبَّاغِ الْفَقِيهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَيُّوبَ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ البُرْسَانِيِّ أَنَّهُمَا رَخَّصَا فِي ذَلِكَ. (قُلْتُ): وَإِلَى هَذَا أَجْنَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَوَسَّطَ الشَّيْخُ تَقِيٌّ الدِّينِ ابْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ لَهُ مِنْ شَيْخِهِ إِجَازَةً جَازَتْ رِوَايَتُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
فَرْعٌ آخَرُ إِذَا اخْتَلَفَ الْحَافِظُ وَكِتَابُهُ فَإِنْ كَانَ اعْتِمَادُهُ فِي حِفْظِهِ عَلَى كِتَابِهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى حِفْظِهِ، وَحَسُنَ أَنْ يُنَبِّهُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ مَعَ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَلْيُنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ رِوَايَتِهِ كَمَا فَعَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ آخَرُ لَوْ وَجَدَ طَبَقَةَ سَمَاعِهِ فِي كِتَابٍ، إِمَّا بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ لِذَلِكَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الرِّوَايَةِ، وَالْجَادَّةُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ- وَبِهِ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ- الْجَوَازُ، اعْتِمَادًا عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَذَكَّرَ سَمَاعَهُ لِكُلِّ حَدِيثٍ أَوْ ضَبْطَهُ، كَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ تَذَكُّرُهُ لِأَصْلِ سَمَاعِهِ.
فَرْعٌ آخَرُ وَأَمَّا رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ عَالِمٍ وَلَا عَارِفٍ بِمَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، بَصِيرًا بِالْأَلْفَاظِ وَمَدْلُولَاتِهَا، وَبِالْمُتَرَادِفِ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ جُمْهُورُ النَّاسِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ تَكُونُ وَاحِدَةً، وَتَجِيءُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَبَايِنَةٍ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا قَدْ يُوقِعَ فِي تَغْيِيرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، مَنَعَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى طَائِفَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ آكَدَ التَّشْدِيدِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَنَسٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يَقُولُونَ إِذَا رَوَوْا الْحَدِيثَ ـ: "أَوْ نَحْوَ هَذَا"، أَوْ "شَبَهَهُ"، "أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ".
فَرْعٌ آخَرُ وَهَلْ يَجُوزُ اخْتِصَارُ الْحَدِيثِ، فَيُحْذَفُ بَعْضُهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحْذُوفُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَذْكُورِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَالَّذِي عَلَيْهِ صَنِيعُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ اخْتِصَارُ الْأَحَادِيثِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ. وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَسُوقُ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَلَا يَقْطَعُهُ، وَلِهَذَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ حُفَّاظِ الْمَغَارِبَةِ، وَاسْتَرْوَحَ إِلَى شَرْحِهِ آخَرُونَ، لِسُهُولَةِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَتَفْرِيقِهِ الْحَدِيثَ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ جُمْهُورُ النَّاسِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ.
مَسْأَلَةٌ حَذْفُ بَعْضِ الْخَبَرِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، إِلَّا فِي الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا إِذَا حَذَفَ الزِّيَادَةَ لِكَوْنِهِ شَكَّ فِيهَا، فَهَذَا سَائِغٌ، كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا، بَلْ كَانَ يَقْطَعُ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ إِذَا شَكَّ فِي وَصْلِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْقِصْ الْحَدِيثَ وَلَا تَزِدْ فِيهِ.
فَرْعٌ آخَرُ يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: "أَخْشَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ الْعَرَبِيَّةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ كَذَبَ عَلِيٍّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ، وَلَحَنْتَ فِيهِ كَذَبْتَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا التَّصْحِيفُ، فَدَوَاؤُهُ أَنْ يَتَلَقَّاهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ الضَّابِطِينَ وَاللَّهُ وَالْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا إِذَا لَحَنَ الشَّيْخُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يَرْوِيَهُ السَّامِعُ عَلَى الصَّوَابِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالْجُمْهُورِ وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي مَعْمَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَرْوِيهِ كَمَا سَمِعَهُ مِنَ الشَّيْخِ مَلْحُونًا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا غُلُوٌّ فِي مَذْهَبِ اتِّبَاعِ اللَّفْظِ. وَعَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ الَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأَشْيَاخِ أَنْ يَنْقُلُوا الرِّوَايَةَ كَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُغَيِّرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ، حَتَّى فِي أَحْرُفٍ مِنَ الْقُرْآنِ، اسْتَمَرَّتْ الرِّوَايَةُ فِيهَا عَلَى خِلَافِ التِّلَاوَةِ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِيءَ ذَلِكَ فِي الشَّوَاذِّ، كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ وَالْمُوَطَّأِ. لَكِنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُ يُنَبِّهُونَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ السَّمَاعِ وَفِي الْحَوَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ جَسَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْكُتُبِ وَإِصْلَاحِهَا، مِنْهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الْكِنَانِيُّ الْوَقْشِيُّ، لِكَثْرَةِ مُطَالَعَتِهِ وَافْتِنَانِهِ قَالَ: وَقَدْ غَلِطَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ. قَالَ: وَالْأَوْلَى سَدُّ بَابِ التَّغْيِيرِ وَالْإِصْلَاحِ، لِئَلَّا يَجْسُرَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا يُحْسِنُ، وَيُنَبِّهَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ السَّمَاعِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصْلِحُ اللَّحْنَ الْفَاحِشَ، وَيَسْكُتُ عَنِ الْخَفِيِّ السَّهْلِ. (قُلْتُ): وَمِنْ النَّاسِ (مَنْ) إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مَلْحُونًا عَنْ الشَّيْخِ تَرَكَ رِوَايَتَهُ; لِأَنَّهُ إِنْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، وَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ كَذَلِكَ.
فَرْعٌ وَإِذَا سَقَطَ مِنَ السَّنَدِ أَوْ الْمَتْنِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَلَا بَأْسَ بِإِلْحَاقِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا انْدَرَسَ بَعْضُ الْكِتَابِ، فَلَا بَأْسَ بِتَجْدِيدِهِ عَلَى الصَّوَابِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {والله يعلم المفسد من المصلح}.
فَرْعٌ آخَرُ وَإِذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ عَنْ شَيْخَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَبَيْنَ أَلْفَاظِهِمْ تَبَايُنٌ فَإِنْ رَكَّبَ السِّيَاقَ مِنَ الْجَمِيعِ، كَمَا فَعَلَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، حِينَ رَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ: "كُلُّ حَدَّثَنِي طَائِفَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ، فَدَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ" وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ، فَهَذَا سَائِغٌ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ، وَخَرَّجُوهُ فِي كُتُبِهِمْ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. وَلِلرَّاوِي أَنْ يُبَيِّنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَنْ الْأُخْرَى، وَيَذْكُرَ مَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَتَحْدِيثٍ وَإِخْبَارٍ وَإِنْبَاءٍ وَهَذَا مِمَّا يُعْنَى بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَيُبَالِغُ فِيهِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَلَا يُعَرِّجُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا تَعَاطَاهُ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ نَادِرٌ.
فَرْعٌ آخَرُ وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي نَسَبِ الرَّاوِي، إِذَا بَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ عِنْدِهِ وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ آخَرُ جَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ إِذَا قَرَءُوا يَقُولُونَ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فُلَانٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فُلَانٌ"، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُ لَفْظَةَ "قَالَ"، وَهُوَ سَائِغٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَمَا كَانَ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ، كَنُسْخَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَبَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهُ إِعَادَةُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ، وَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْإِسْنَادَ عِنْدَ أَوَّلِ حَدِيثٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَقُولُ "وَبِالْإِسْنَادِ" أَوْ "وَبِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا وَكَذَا"، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعَهُ، وَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ الْإِسْنَادَ. (قُلْتُ): وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ سَهْلٌ يَسِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إِذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَتْنِ عَلَى الْإِسْنَادِ كَمَا إِذَا قَالَ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا" ثُمَّ قَالَ "أَخْبَرَنَا بِهِ"، وَأَسْنَدَهُ فَهَلْ لِلرَّاوِي عَنْهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِسْنَادَ أَوْ لَا وَيُتْبِعَهُ بِذِكْرِ مَتْنِ الْحَدِيثِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي جَوَازُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلِهَذَا يُعِيدُ مُحَدِّثُو زَمَانِنَا إِسْنَادَ الشَّيْخِ بَعْدَ فَرَاغِ الْخَبَرِ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْمَعُ مِنْ أَثْنَائِهِ بِفَوْتٍ، فَيَتَّصِلُ لَهُ سَمَاعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْخِ، وَلَهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ كَمَا يَشَاءُ، مِنْ تَقْدِيمِ إِسْنَادِهِ وَتَأْخِيرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ إِذَا رَوَى حَدِيثًا بِسَنَدِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ آخَرَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ "مِثْلَهُ" أَوْ "نَحْوَهُ"، وَهُوَ ضَابِطٌ مُحَرِّرٌ، فَهَلْ يَجُوزُ رِوَايَتُهُ لَفْظَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِإِسْنَادِ الثَّانِي؟ قَالَ شُعْبَةُ: لَا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: نَعَمْ، حَكَاهُ وَكِيعٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ "مِثْلَهُ"، وَلَا يَجُوزُ فِي "نَحْوِهِ". قَالَ الْخَطِيبُ: إِذَا قِيلَ بِالرِّوَايَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ "مِثْلَهُ" أَوْ "نَحْوَهُ"، وَمَعَ هَذَا أَخْتَارُ قَوْلَ ابْنِ مَعِينٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا أَوْرَدَ السَّنَدَ وَذَكَرَ بَعْضَ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَالَ: "الْحَدِيثَ"، أَوْ "الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ"، أَوْ "بِطُولِهِ" أَوْ "إِلَى آخِرِهِ"، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ فَهَلْ لِلسَّامِعِ أَنَّ يَسُوقُ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ؟ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ، وَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ البُرْقَانِيُّ شَيْخَهُ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الشَّيْخُ وَالْقَارِئُ يَعْرِفَانِ الْحَدِيثَ فَأَرْجُو أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ، وَالْبَيَانُ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (قُلْتُ): وَإِذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِجَازَةِ الْأَكِيدَةِ الْقَوِيَّةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ، فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الشَّيْخِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَتَجُوزُ الرِّوَايَةِ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ قَدْ سَلَفَ بَيَانُهُ وَتَحَقَّقَ سَمَاعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِبْدَالُ لَفْظِ "الرَّسُولِ" "بِالنَّبِيِّ" أَوْ "النَّبِيِّ" "بِالرَّسُولِ" قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ جَازَتْ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، يَعْنِي لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ فِي الْكِتَابِ "النَّبِيِّ" فَكَتَبَ الْمُحَدِّثُ "رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ضَرَبَ عَلَى "رَسُولُ"، وَكَتَبَ "النَّبِيُّ" قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا مِنْهُ اسْتِحْبَابٌ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ. قَالَ صَالِحٌ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ عَفَّانَ وَبَهْزًا كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: لَهُمَا أَمَّا أَنْتُمَا فَلَا تَفْقَهَانِ أَبَدًا!!.
هَلْ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا؟ حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي زُرْعَةَ، الْمَنْعَ مِنَ التَّحْدِيثِ بِهَا، لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمُسَاهَلَةِ، وَالْحِفْظُ خَوَّانٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلِهَذَا امْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْحُفَّاظِ مِنْ رِوَايَةِ مَا يَحْفَظُونَهُ إِلَّا مِنْ كُتُبِهِمْ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ قَالَ: فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا فَلْيَقُلْ "حَدَّثَنَا فُلَانٌ مُذَاكَرَةً"، أَوْ "فِي الْمُذَاكَرَةِ"، وَلَا يُطْلِقُ ذَلِكَ، فَيَقَعُ فِي نَوْعٍ مِنَ التَّدْلِيسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنِ اثْنَيْنِ، جَازَ ذِكْرُ ثِقَةٍ مِنْهُمَا وَإِسْقَاطُ الْآخَرِ، ثِقَةً كَانَ أَوْ ضَعِيفًا وَهَذَا صَنِيعُ مُسْلِمٍ فِي ابْنِ لَهِيعَةَ غَالِبًا وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ فَلَا يُسْقِطُهُ، بَلْ يَذْكُرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَلَّفَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ "الْجَامِعُ لِآدَابِ الشَّيْخِ وَالسَّامِعِ". وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ مُهِمَّاتٌ فِي عُيُونِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ وَغَيْرُهُ: يَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلْحَدِيثِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقَالَ: غَيْرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ، بِأَنَّ أَقْوَامًا حَدَّثُوا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، بَلْ قَبْلَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، ازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِهِ أَحْيَاءٌ. قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ: فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ أَحْبَبْتَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اخْتَلَطَ. وَقَدْ اسْتَدْرَكُوا عَلَيْهِ بِأَنْ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ حَدَّثُوا بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَخَلْقٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ حَدَّثَ آخَرُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مِائَةِ سَنَةٍ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الهُجَيْمِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ- أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ- وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ. لَكِنْ إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادِ عَلَى حِفْظِ الشَّيْخِ الرَّاوِي، فَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنْ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِفْظِ غَيْرِهِ وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، فَهَا هُنَا كُلَّمَا كَانَ السِّنُّ عَالِيًا كَانَ النَّاسُ أَرْغَبَ فِي السَّمَاعِ عَلَيْهِ كَمَا اتَّفَقَ لِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْحَجَّارِ، فَإِنَّهُ جَاوَزَ الْمِائَةَ مُحَقَّقًا، سَمَّعَ عَلَى الزَّبِيدِيِّ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ، وَأَسْمَعَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا عَامِّيًّا، لَا يَضْبِطُ شَيْئًا، وَلَا يَتَعَقَّلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ، وَمَعَ هَذَا تَدَاعَى النَّاسُ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ عِنْدَ تَفَرُّدِهِ عَنِ الزَّبِيدِيِّ، فَسَمِعَ مِنْهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ حَسِنَ الطَّرِيقَةِ، صَحِيحَ النِّيَّةِ فَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ عَنِ الْخَيْرِ فَلْيَسْمَعْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، قَالَ: بَعْضُ السَّلَفِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ. وَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى سِنًّا أَوْ سَمَاعًا. بَلْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ التَّحْدِيثَ، لِمَنْ فِي الْبَلَدِ أَحَقَّ مِنْهُ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَيُرْشِدَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لَا يَنْبَغِي عَقْدُ مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ، وَلْيَكُنْ الْمُسْمِعُ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، كَمَا كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا حَضَرَ مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ، تَوَضَّأَ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ، وَتَطَيَّبَ،وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَعَلَاهُ الْوَقَارُ وَالْهَيْبَةُ، وَتَمَكَّنَ فِي جُلُوسِهِ، وَزَبَرَ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ. وَيَنْبَغِي افْتِتَاحُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ (شَيْءٍ) مِنَ الْقُرْآنِ، تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا بِتِلَاوَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ التَّحْمِيدُ الْحَسِنُ التَّامُّ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلْيَكُنْ الْقَارِئُ حَسِنَ الصَّوْتِ، جَيِّدَ الْأَدَاءِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، وَكُلَّمَا مَرَّ بِذِكْرِ النَّبِيِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا مَرَّ بِصِحَابِيٍّ تَرَضَّى عَنْهُ. وَحَسُنَ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى شَيْخِهِ، كَمَا كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ حَدَّثَنِي الْحَبْرُ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ وَكِيعٌ يَقُولُ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ أَحَدًا بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ، فَأَمَّا لَقَبٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ فَلَا بَأْسَ.
يَنْبَغِي لَهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ، إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُنْ قَصْدُهُ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُهِمَّاتِ الزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ عَلَى ذَلِكَ. وَلْيُبَادِرْ إِلَى سَمَاعِ الْعَالِي فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا اسْتَوْعَبَ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى أَعْلَى مَا يُوجَدُ فِي الْبُلْدَانِ، وَهُوَ الرِّحْلَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُهِمَّاتِ مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِرِحْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ. كَانَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي يَقُولُ يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ أَدُّوا زَكَاةَ الْحَدِيثَ، مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ حَدِيثٍ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المُلَائِيُّ: إِذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَاعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً، تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ. قَالَ وَكِيعٌ: إِذَا أَرَدْتَ حِفْظَ الْحَدِيثِ فَاعْمَلْ بِهِ. قَالُوا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى الشَّيْخِ فِي السَّمَاعِ حَتَّى يُضْجِرَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ إِذَا طَالَ الْمَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ. وَلْيُفِدْ غَيْرَهُ مِنَ الطَّلَبَةِ، وَلَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، فَقَدْ جَاءَ الزَّجْرُ عَنْ ذَلِكَ. قَالُوا: وَلَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ قَالَ وَكِيعٌ: لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَمَنْ هُوَ مِثْلَهُ، وَمَنْ هُوَ دُونَهُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ بِمُوَفَّقٍ مَنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الشُّيُوخِ، لِمُجَرَّدِ الْكَثْرَةِ وَصِيتِهَا قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مُجَرَّدِ سَمَاعِهِ وَكُتُبِهِ، مِنْ غَيْرِ فَهْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِطَائِلٍ. ثُمَّ حَثَّ عَلَى سَمَاعِ الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهَا.
وَلَمَّا كَانَ مَعْرِفَةُ الْإِسْنَادِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يُمْكِنُهَا أَنْ تُسْنِدَ عَنْ نَبِيِّهَا إِسْنَادًا مُتَّصِلًا غَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَلِهَذَا كَانَ طَلَبُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي مُرَغَّبًا فِيهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْإِسْنَادُ الْعَالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ سَلَفَ. وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: بَيْتٌ خَالِي، وَإِسْنَادٌ عَالِي. وَلِهَذَا تَدَاعَتْ رَغَبَاتُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ، وَالْجَهَابِذَةِ الْحُفَّاظِ إِلَى الرِّحْلَةِ إِلَى أَقْطَارِ الْبِلَادِ، طَلَبًا لِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ الرِّحْلَةِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الْعُبَّادِ، فِيمَا حَكَاهُ الرَّامَهُرْمَزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَاصِلِ. ثُمَّ إِنَّ عُلُوَّ الْإِسْنَادِ أَبَعْدُ مِنَ الْخَطَأِ وَالْعِلَّةِ مِنْ نُزُولِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: كُلَّمَا طَالَ الْإِسْنَادُ كَانَ النَّظَرُ فِي التَّرَاجِمِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا لَا يُقَابِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُوِّ مَا كَانَ قَرِيبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَّا الْعُلُوُّ بِقُرْبِهِ إِلَى إِمَامٍ حَافِظٍ، أَوْ مُصَنِّفٍ، أَوْ بِتَقَدُّمِ السَّمَاعِ فَتِلْكَ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِوٍ هَاهُنَا عَلَى (الْمُوَافَقَةِ)، وَهِيَ انْتِهَاءُ الْإِسْنَادِ إِلَى شَيْخِ مُسْلِمٍ مَثَلًا (وَالْبَدَلُ)، وَهُوَ انْتِهَاؤُهُ إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ أَوْ مِثْلِ شَيْخِهِ (وَالْمُسَاوَاةُ) وَهُوَ أَنْ تُسَاوِيَ فِي إِسْنَادِك الْحَدِيثَ لِمُصَنَّفٍ (وَالْمُصَافَحَةُ) وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ نُزُولِكَ عَنْهُ بِدَرَجَةٍ حَتَّى كَأَنَّهُ صَافَحَك بِهِ وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْفُنُونُ تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ، قَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٍ وَعِنْدِي أَنَّهُ نَوْعٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْفُنُونِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَالِيَ مِنَ الْإِسْنَادِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَإِنْ كَثُرَتْ رِجَالُهُ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ، وَمَاذَا يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ فِيمَا إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادَانِ، لَكِنْ أَقْرَبَ رِجَالًا؟ وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنِ الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَعَنِ الْحَافِظِ السَّلَفِيِّ. وَأَمَّا النُّزُولُ فَهُوَ ضِدُّ الْعُلُوِّ، وَهُوَ مَفْضُولٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلُوِّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِجَالُ الْإِسْنَادِ النَّازِلِ أَجَلَّ مِنْ رِجَالِ الْعَالِي، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ ثِقَاتٍ. كَمَا قَالَ وَكِيعٌ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكُمْ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَقَالُوا: الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، شَيْخٌ عَنْ شَيْخٍ، وَسُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ، وَحَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الْفُقَهَاءُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ.
وَالشُّهْرَةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَقَدْ يَشْتَهِرُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَوْ يَتَوَاتَرُ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ مُتَوَاتِرًا أَوْ مُسْتَفِيضًا، وَهُوَ مَا زَادَ نَقَلَتَهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَعَنْ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ أَقْوَى مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ صَحِيحًا، كَحَدِيثِ "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَحَسَنًا. وَقَدْ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَحَادِيثُ لَا أَصْلَ لَهَا، أَوْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَمَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ الْمَوْضُوعَاتِ لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ عَرَفَ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ تَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ لَا أَصْلَ لَهَا «"مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذَارَ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ"» و«"مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"» و«"نَحْرُكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ"» و«"لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ"».
أَمَّا الْغَرَابَةُ فَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَتْنِ، بِأَنْ يَتَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ رَاوٍ وَاحِدٌ، أَوْ فِي بَعْضِهِ، كَمَا إِذَا زَادَ فِيهِ وَاحِدٌ زِيَادَةً لَمْ يَقُلْهَا غَيْرُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي زِيَادَةِ الثِّقَةِ. وَقَدْ تَكُونُ الْغَرَابَةُ فِي الْإِسْنَادِ، كَمَا إِذَا كَانَ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْ وُجُوهٍ، وَلَكِنَّهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَرِيبٌ. فَالْغَرِيبُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ وَاحِدٌ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً، وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ. فَإِنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ الشَّيْخِ، سُمِّيَ "عَزِيزًا"، فَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، سُمِّيَ "مَشْهُورًا"، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَهْمِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ، لَا بِمَعْرِفَةِ صِنَاعَةِ الْإِسْنَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى. وَأَحْسَنُ شَيْءٍ وُضِعَ فِي ذَلِكَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَقَدْ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَشْيَاءَ، وَتَعَقَّبَهُمَا الْخَطَّابِيُّ، فَأَوْرَدَ زِيَادَاتٍ. وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْمُتَقَدِّمُ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَأَجَلُّ كِتَابٍ يُوجَدُ فِيهِ مَجَامِعُ ذَلِكَ كِتَابُ (الصِّحَاحِ) لِلْجَوْهَرِيِّ وَكِتَابُ (النِّهَايَةِ) لِابْنِ الْأَثِيرِ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي صِفَةِ الرِّوَايَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ "سَمِعْتُ"، أَوْ "حَدَّثَنَا"، أَوْ "أَخْبَرَنَا"، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ فِي صِفَةِ الرَّاوِي، بِأَنْ يَقُولَ حَالَةَ الرِّوَايَةِ قَوْلًا قَدْ قَالَهُ شَيْخُهُ لَهُ، أَوْ يَفْعَلُ فِعْلًا فَعَلَ شَيْخُهُ مِثْلَهُ. ثُمَّ قَدْ يَتَسَلْسَلُ الْحَدِيثُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ يَنْقَطِعُ بَعْضُهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ. وَفَائِدَةُ التَّسَلْسُلِ بُعْدُهُ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالِانْقِطَاعِ وَمَعَ هَذَا قَلَّمَا يَصِحُّ حَدِيثٌ بِطَرِيقٍ مُسَلْسَلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْفَنُّ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْكِتَابِ، بَلْ هُوَ بِأُصُول الْفِقْهِ أَشْبَهُ. وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كُتُبًا كَثِيرَةً مُفِيدَةً، مِنْ أَجَلِّهَا كِتَابُ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْحَازِمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَتْ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَدُ الطُولى، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ. ثُمَّ النَّاسِخُ قَدْ يُعْرَفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَقَوْلِهِ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأْرِيخِ وَعِلْمِ السِّيرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَلَكَهُ الشَّافِعِيُّ فِي حَدِيثِ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ، فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قُتِلَ بِمُؤْتَةَ، قَبْلَ الْفَتْحِ بِأَشْهُرٍ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ» وَإِنَّمَا أَسْلَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أَبِيهِ فِي الْفَتْحِ. فَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ "هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا"، فَلَمْ يَقْبَلْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ يُخْطِئُ فِيهِ، وَقَبِلُوا قَوْلَهُ "هَذَا كَانَ قَبْلَ هَذَا"; لِأَنَّهُ نَاقِلٌ وَهُوَ ثِقَةٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ.
فَقَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ تَرَسَّمَ بِصِنَاعَةِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ صَنَّفَ الْعَسْكَرِيُّ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدًا كَبِيرًا. وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَ مِنْ الصُّحُفِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ حَافِظٌ يُوقِفُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَمَا يَنْقُلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَحِّفُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَغَرِيبٌ جِدًّا; لِأَنَّ لَهُ كِتَابًا فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَشْيَاءُ لَا تَصْدُرُ عَنْ صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْهُ مَا يَكَادُ اللَّبِيبُ يَضْحَكُ مِنْهُ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَمَعَ طُرُقَ حَدِيثِ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» ثُمَّ أَمْلَاهُ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنَ النَّاسِ فَجَعَلَ يَقُولُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ البَعِيرُ!، فَافْتُضِحَ عِنْدَهُمْ، وَأَرَّخُوهَا عَنْهُ!!. وَكَذَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ مُدَرِّسِي النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ أَوَّلَ يَوْمِ إِجْلَاسِهِ أَوْرَدَ حَدِيثَ: «صَلَاةٌ فِي إِثْرِ صَلَاةٍ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» فَقَالَ: كِنَازٍ فِي غَلَسٍ! فَلَمْ يَفْهَمْ الْحَاضِرُونَ مَا يَقُولُ، حَتَّى أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ تَصَحَّفَ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ!!. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْجَهْبَذُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ، وَمِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ أَدَاءً لِلْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ- فِيمَا نَعْلَمُ- مِثْلُهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَيْضًا وَكَانَ إِذَا تَغَرَّبَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِرِوَايَةِ (شَيْءٍ) مِمَّا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُ، يَقُولُ هَذَا مِنَ التَّصْحِيفِ الَّذِي لَمْ يَقِفْ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الصُّحُفِ وَالْأَخْذِ مِنْهَا.
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ فَصْلًا طَوِيلًا مِنْ كِتَابِهِ "الْأُمِّ" نَحْوًا مِنْ مُجَلَّدٍ. وَكَذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، لَهُ فِيهِ مُجَلَّدٌ مُفِيدٌ وَفِيهِ مَا هُوَ غَثٌّ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ، كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَيُصَارُ إِلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ بِنَوْعٍ مِنْ أَقْسَامِهِ، أَوْ يَهْجُمُ فَيُفْتِي بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يُفْتِي بِهَذَا فِي وَقْتٍ، وَبِهَذَا فِي وَقْتٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ خُزَيْمَةَ يَقُولُ لَيْسَ ثَمَّ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ; وَمَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَأْتِنِي لِأُؤَلِّفَ لَهُ بَيْنَهُمَا.
وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ رَاوٍ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا حَافِلًا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ. وَمَثَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا النَّوْعَ بِمَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِي بُسْرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتَ أَبَا إِدْرِيسَ يَقُولُ سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ سَمِعْتَ أَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ يَقُولُ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا سُفْيَانَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَهِمَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي إِدْخَالِهِ أَبَا إِدْرِيسَ فِي الْإِسْنَادِ وَهَاتَانِ زِيَادَتَانِ.
وَهُوَ يَعُمُّ الْمُنْقَطِعَ وَالْمُعْضَلَ أَيْضًا وَقَدْ صَنَّفَ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى (بِالتَّفْصِيلِ لِمُبْهَمِ الْمَرَاسِيلِ) وَهَذَا النَّوْعُ إِنَّمَا يُدْرِكُهُ نُقَّادُ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَتُهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ إِمَامًا فِي ذَلِكَ، وَعَجَبًا مِنَ الْعَجَبِ- فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالْمَغْفِرَةِ ثَرَاهُ. فَإِنَّ الْإِسْنَادَ إِذَا عُرِضَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ ثِقَاتِ الرِّجَالِ وَضُعَفَاءَهُمْ، قَدْ يَغْتَرُّ بِظَاهِرِهِ، وَيَرَى رِجَالَهُ ثِقَاتٍ، فَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَهْتَدِي لِمَا فِيهِ مِنْ الِانْقِطَاعِ، أَوْ الْإِعْضَالِ، أَوْ الْإِرْسَالِ; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمَيِّزُ الصَّحَابِيَّ مِنْ التَّابِعِيِّ وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ لِلصَّوَابِ. وَمَثَّلَ هَذَا النَّوْعَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِمَا رَوَى الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ بِلَالٌ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ نَهَضَ وَكَبَّرَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَلْقَ الْعَوَّامُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى، يَعْنِي فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا بَيْنَهُمَا، فَيَضْعُفُ الْحَدِيثُ، لِاحْتِمَال أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ رَجُلٍ ضَعِيفٍ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالصَّحَابِيُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ إِسْلَامِ الرَّائِي، وَإِنْ لَمْ تَطُلْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خَلَفًا وَسَلَفًا. وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ كَافٍ فِي إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ مَنْدَهْ وَأَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ "الْغَابَةُ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ"، وَهُوَ أَجْمَعُهَا وَأَكْثَرُهَا فَوَائِدَ وَأَوْسَعُهَا- أَثَابَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ شَانَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابَهُ "الِاسْتِيعَابُ" بِذِكْرِ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَلَقَّاهُ مِنْ كُتُبِ الْأَخْبَارِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بُدَّ مِنْ إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ مَعَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا أَوْ حَدِيثَيْنِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْحَبَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، أَوْ يَغْزُوَ مَعَهُ غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى السَّبْلَانِيِّ- وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: هَلْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ غَيْرُكَ؟ قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ رَأَوْهُ، فَأَمَّا مَنْ صَحِبَهُ فَلَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِحَضْرَةِ أَبِي زُرْعَةَ. وَهَذَا إِنَّمَا نَفَى فِيهِ الصُّحْبَةَ الْخَاصَّةَ، وَلَا يَنْفِي مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ كَافٍ فِي إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ، لِشَرَفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «تَغْزُونَ فَيُقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَكُمْ حَتَّى ذَكَرَ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ، فِي مُعَاوِيَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِيَوْمٍ شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
فَرْعٌ وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فِي الْمَدْحِ لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَخْلَاقِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَا بَذَلُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْجَزَاءِ الْجَمِيلِ. وَأَمَّا مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمِنْهُ مَا وَقَعَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَيَوْمِ الْجَمَلِ، وَمِنْهُ مَا كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ، كَيَوْمِ صِفِّينَ وَالِاجْتِهَادُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ، وَمَأْجُورٌ أَيْضًا، وَأَمَّا الْمُصِيبُ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الصَّحَابَةُ عُدُولٌ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا: قَوْلٌ بَاطِلٌ مَرْذُولٌ وَمَرْدُودٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ بِنْتِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ مَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ». وَظَهَرَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي نُزُولِ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَمْرِ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَتْ الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَسُمِّيَ "عَامَ الْجَمَاعَةِ" وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فَسَمَّى الْجَمِيعَ "مُسْلِمِينَ" وَقَالَ تَعَالَى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فَسَمَّاهُمْ "مُؤْمِنِينَ" مَعَ الِاقْتِتَالِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ مُعَاوِيَةَ? يُقَالُ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقِ مِائَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَجَمِيعُهُمْ صَحَابَةٌ، فَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُمْ. وَأَمَّا طَوَائِفُ الرَّوَافِضِ وَجَهْلُهُمْ وَقِلَّةُ عَقْلِهِمْ، وَدَعَاوِيهِمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَفَرُوا إِلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، وَسَمَّوْهُمْ فَهُوَ مِنَ الْهَذَيَانِ بِلَا دَلِيلٍ إِلَّا مُجَرَّدَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ، عَنْ ذِهْنٍ بَارِدٍ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُرَدَّ وَالْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِهِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، مِمَّا عُلِمَ مِنْ امْتِثَالِهِمْ أَوَامِرَهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفَتْحِهِمْ الْأَقَالِيمَ وَالْآفَاقَ، وَتَبْلِيغِهِمْ عَنْهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَهِدَايَتِهِمْ النَّاسَ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، فِي سَائِرِ الْأَحْيَانِ وَالْأَوْقَاتِ، مَعَ الشَّجَاعَةِ وَالْبَرَاعَةِ، وَالْكَرَمِ وَالْإِيثَارِ، وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ (فِي) أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا يَكُونَ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ- فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَعَنَ مَنْ يَتَّهِمُ الصَّادِقَ وَيُصَدِّقُ الْكَاذِبِينَ- آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ، بَلْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ (أَبِي قُحَافَةَ) التَّيْمِيُّ، خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُمِّيَ بِالصَّدِيقِ لِمُبَادَرَتِهِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِيمَانِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» وَقَدْ ذَكَرْتُ سِيرَتَهُ وَفَضَائِلَهُ وَمُسْنَدَهُ وَالْفَتَاوَى عَنْهُ، فِي مُجَلَّدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. هَذَا رَأْيُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حِينَ جَعَلَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَانْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَاجْتَهَدَ فِيهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، حَتَّى سَأَلَ النِّسَاءَ فِي خُدُورِهِنَّ، وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ، فَلَمْ يَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا، فَقَدَّمَهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَوَلَّاهُ الْأَمْرَ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَصَدَقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ وَيُحْكَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، لَكِنْ يُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ،وَنَصَرَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ، ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ، ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، فَقِيلَ هُمْ مَنْ صَلَّى (إِلَى) الْقِبْلَتَيْنِ، وَقِيلَ أَهْلُ بَدْرٍ، وَقِيلَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مَنْ سِتِّينَ أَلْفًا وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَكَانَ مَعَهُ بِتَبُوكَ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقُبِضَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ مِائَةٍ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَأَكْثَرُهُمْ رِوَايَةً سِتَّةٌ أَنَسٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ. (قُلْتُ): وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ تُوُفِّيَ قَدِيمًا، وَلِهَذَا لَمْ يَعُدَّهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْعَبَادِلَةِ، بَلْ قَالَ: الْعَبَادِلَةُ أَرْبَعَةٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
فَرْعٌ وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا وَمِنَ الْوِلْدَانِ عَلِيٌّ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا، وَلَا دَلِيَلَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمِنَ الْأَرِقَّاءِ بِلَالٌ وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَقِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبِ الْمَغَازِي وَجَمَاعَةٍ، وَادَّعَى الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ أَسْلَم بَعْدَهَا.
فَرْعٌ وَآخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ثُمَّ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ فَعَلَى هَذَا هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا وَيُقَالُ: آخِرُ مَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ ابْنُ عُمَرَ وَقِيلَ جَابِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَابِرًا مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا وَقِيلَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَقِيلَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ وَبِالْبَصْرَةِ أَنَسٌ وَبِالْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَبِالشَّامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ بِحِمْصَ وَبِدِمَشْق وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَبِمِصْرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ وَبِالْيَمَامَةِ الْهِرْمَاسُ بْنُ زِيَادٍ، وَبِالْجَزِيرَةِ الْعُرْسُ بْنُ عَمِيرَةَ وَبِإِفْرِيقِيَّةَ رُوَيفعُ بْنُ ثَابِتٍ وَبِالْبَادِيَةِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَرْعٌ وَتُعْرَفُ صُحْبَةُ الصَّحَابَةِ تَارَةً بِالتَّوَاتُرِ، وَتَارَةً بِأَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَتَارَةً بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ، وَتَارَة بِرِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاعًا أَوْ مُشَاهَدَةً مَعَ الْمُعَاصَرَةِ.
فَرْعٌ فَأَمَّا إِذَا قَالَ الْمُعَاصِرُ الْعَدْلُ "أَنَا صَحَابِيٌّ" فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ: احْتَمَلَ الْخِلَافَ، يَعْنِي; لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي النَّاسِخِ: "هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا" لِاحْتِمَال خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا لَوْ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا" أَوْ "رَأَيْتُهُ فَعَلَ كَذَا"، أَوْ "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَنَحْوَ هَذَا، فَهَذَا مَقْبُولٌ لَا مَحَالَةَ، إِذَا صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّنْ عَاصَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
|